تعطي اتفاقية مناهضة التعذيب وغيره من ضروب المعاملة أو العقوبة القاسية أو اللاإنسانية أو المهينة التي اعتمدتها الجمعية العامة للأمم المتحدة وفتحت باب التوقيع والتصديق والانضمام إليها في القرار 39/46 المؤرخ في 10/12/1984 لكلمة التعذيب التعريف التالي: "أي عمل ينتج عنه ألم أو عذاب شديد جسديا كان أم عقليا يلحق عمدا بشخص ما بقصد الحصول منه أو من شخص ثالث على معلومات أو على اعتراف، أو معاقبته على عمل ارتكبه أو يشتبه أنه أرتكبه هو أو شخص ثالث أو تخويفه أو إرغامه هو أو أي شخص ثالث، أو عندما يلحق مثل هذا الألم أو العذاب لأي سبب من الأسباب يقوم على التمييز أيا كان نوعه أو يحرض عليه أو يوافق عليه أو يسكت عنه موظف رسمي أو أي شخص آخر يتصرف بصفته الرسمية. ولا يتضمن ذلك الألم أو العذاب الناشئ فقط عن عقوبات قانونية أو الملازم لهذه العقوبات أو الذي يكون نتيجة عرضية لها".
إن قراءة متفحصة لهذا التعريف ومراجعة مدققة لجملة النقاشات التي أوصلت إليه تقودنا إلى ضرورة تجاوز المفهوم السطحي والاختزالي لهذه الكلمة إلى مفهوم شامل ومتعدد الميادين. فالتخلص من التعذيب لا ينحصر في منعه القانوني، كما لا يمكن اختزاله بممارسات أجهزة الأمن. من هنا حرصنا على تناول جملة أشكال عنفية تمارس بحق الإنسان تجعل من كلمة التعذيب، ليس فقط الجسدي وإنما أيضا العقلي والنفسي، معاناة يومية تسلك طرقا مختلفة وتترك آثارها السلبية بشكل مباشر وغير مباشر على الفرد والمجتمع والدولة.
من هذا المنطلق، مفهوم العنف كما نفهمه هو كل ضغط لا يُحتمل يمُارس ضد الحرية الشخصية ومجمل أشكال التعبير عنها بهدف إخضاع طرف لصالح طرف آخر في إطار علاقة قوة غير متكافئة سياسيا أو اقتصاديا أو اجتماعيا أو غيره، أكان هذا الاختلاف قائما على الجنس أو المنشأ أو العرق أو السن أو ما عدا ذلك. إنه مساس بالشخصية الإنسانية وبالتالي عائق لنموها وانعتاقها ولأنسنة الوجود البشري.
لكن هناك ضروبا من الإكراه لا تسمى عنفا وتعتبر طبيعية في مجتمع ما بينما ينظر لها كعنف في مجتمعات أخرى، حيث أن تعريف العنف نسبي. ألا يطالب المجتمع أفراده بالرضوخ لمعاييره ويمارس الإكراه بفرض قواعد سلوكية تلزمهم بالتلاؤم معها، معتبرا من يرفضها منحرفا ؟
ما نود التشديد عليه هنا خاصة هو أن الإكراه والقمع لا بد أن يولّدا بالمقابل حالة عدوانية قد تتحول عنفا عند من يتحسسها كعنف ممارس ضده. فإلى جانب آليات التصعيد المختلفة التي يلجأ لها المرء لتصريف العدوانية، يمكن لهذه أن ترتد على الذات بحركة مازوشية أو على الغير بحركة سادية وتصبح مرضية محدثة حالات عصابية. فالعنف إذاً لا بد وأن يستدعي:
1 - عملية رد فعل لإعادة شئ من التوازن بحكم "مبدأ الثبات"،
2- إن آلية رد الفعل لا تكون بالضرورة آنية وميكانيكية حيث قد تخضع لقانون التراكم،
3- يمكن لرد الفعل أن يتخذ أشكالا مستترة ومنحرفة تبدو أحيانا دون علاقة مباشرة وواضحة بالمنشأ.
يأخذ العنف الممارس على الآخر وردود الأفعال العنفية إزاءه أشكالا متعددة نتطرق لها من خلال دراسة نظرية حول تشكل آليات العنف وإعادة إنتاجه (القسم الأول)، مدعومة بنماذج عيانية من عدة بلدان عربية (القسم الثاني) لثلاث فئات مستضعفة (الطفل والمرأة والعمال الأجانب). نرى هذه الأشكال العنفية بتعبيراتها الأكثر حدة في بلدان الخليج العربي التي ستحتل مساحة لا بأس بها من بحثنا، نظرا لأهميتها كنموذج ولندرة ما ينشر عنها خاصة باللغة العربية.
القســـم الأول
أنماط العلاقات الأسرية
تعيش مجتمعاتنا العربية منذ عقود مراحل انتقال تدريجية من ثقافة تقليدية لأشكال ثقافية أكثر معاصرة. فالعولمة الزاحفة اليوم والتداخل مع ثقافات العالم الصناعي أدخلا تغييرات وظواهر جديدة تتسارع تعبيراتها الحالية. ينتج عن الاختلاط هذا وتداخل الجديد بالقديم غالبا محاولات توفيقية بين مرجعيات متناقضة تتراوح المسافة من كل منها باختلاف الأفراد ومعاييرهم الشخصية والاجتماعية. فتغدو قيمة الفرد أقل تعلقا بالدور والمكانة الاجتماعية والجنس والعمر. كما ويتراجع دور الدين وما هو غيبي مع ازدياد العقلانية واحتلال القوانين مساحة أكبر على حساب الأعراف والتقاليد. مما يحوّل تدريجيا ولو ببطيء الفرد لمواطن ويخفف من حدة التمايز الاجتماعي (1).
لكن عملية التثاقف (Acculturation) هذه تحدث اختلافات وتضاربات يسفر عنها أزمات في النمو وإختلالات في السلوك والمعايير والقيم تختلف حدتها من بيئة ثقافية لأخرى. فالمعاناة النفسية التي ترافقها قد تكون مؤلمة، حيث من تعبيراتها ظواهر العنف المختلفة وانقطاع قد يكون كبيرا بين الأجيال. فالأجيال الجديدة تعيش ظروفا وأنماطا تربوية مختلفة عما عاشه جيل الأهل الذي يجد صعوبة بالتعرف على نفسه من خلال أبنائه.
لا بد من الإشارة إلى أن هذا الاختلاط بين الثقافات لم يحصل بشكل متكافئ وإنما عبر أشكال مختلفة من التبعية والاستلاب وعلاقات إنتاجية مشوهة فرضتها السيطرة الاقتصادية والسياسية للنظام الرأسمالي الاستعماري بشكليه القديم والمعاصر. كذلك تفرض الأنماط التربوية والتقاليد وممارسات المؤسسات السلطوية نفسها عبر عملية التكييف المستمرة للأفراد بشكل يجعل من الصعوبة بمكان مقاومة التقليد كلية لصالح التجديد. لهذا تأخذ عملية الجمع بين الأضداد على حساب الحفاظ على وحدة الذات الشكل الأكثر بروزا.
أما بما يخص البطريركية (الأبوية) العائلية تتوزع السلوكات عامة بين الرضوخ لها وللجماعة من جهة وبين تحقيق الذات ومواجهة المجتمع بالإمكانات الفردية والخيارات الذاتية من جهة أخرى. لكن بما أن التغييرات التي دخلت على الهيكلية الأبوية للأسرة العربية بقيت سطحية ولم تمس مضمونها وجوهرها، فهي إن أثرت على شكل الأسرة ودورها الاجتماعي والثقافي لم تؤثر على نوعية العلاقات داخلها. ففي ظل ظروف التخلف الاقتصادي والاجتماعي والقهر السياسي كرس العنف تهميش فئات واسعة لصالح الطرف الذي يملك موازين القوى.
على صعيد علاقات الجنسين كان التقدم في العديد من معالمه لصالح الرجل الذي فُتحت أمامه إمكانات جديدة وحصل على حريات لم يُسمح بها للنساء. مما كرس سيطرته على الأصعدة الاقتصادية والاجتماعية والثقافية والقانونية والسياسية. في هذا الوضع لم تحظ المرأة بقدر كاف من التعليم والعمل المهني بما يسمح لها بتحقيق ذاتها وبتغيير موازين القوى بشكل أكثر تكافئا. مما زاد من التفرقة بالمستوى بين الزوجين وبين أفراد العائلة ومن التوتر في العلاقات التي يحكمها منطق القوة والسيطرة والاستغلال التي يكرسها الدين والثقافة والقانون (2).
عندما تضاعف عمل المرأة في المنزل مع عمل آخر خارجه بسبب الأزمة الاقتصادية لم يشارك الرجل المرأة بالأعمال المنزلية. كذلك لم يسمح لها العمل المأجور بتحقيق نفسها بقدر ما كان من أجل مساعدة الأسرة على تحسين مستوى معيشتها. وتجسد المرأة الريفية التي تؤدي أدوارا عدة، منها الإنتاجية الزراعية، ذروة واقع القهر والاستغلال الذي تتعرض له النساء في إطار تقسيم العمل.
لقد بقيت العلاقات داخل الأسرة العربية محكومة ببقايا من علاقات العبودية التي نشأت تاريخيا في ظل سيادة النظام الأبوي. هذا النظام الذي أعطى السلطة المطلقة للرجل وفرض على المرأة والأبناء الخضوع له بالقوة. فكونهم امتداد طبيعي لملكيته يحق له أن يتصرف معهم كيفما شاء، مكرسا لديهم الشعور بالتسامح تجاه بعض أفعاله غير المقبولة باعتبارها سلوكا طبيعيا. والرجل إن أخطأ بحق المرأة لا يتعرض بسهولة للعقاب كونه "وقع ضحيتها". فهي فقط التي تدفع الثمن أو أكثر منه.
واليوم، رغم أن فرص التعليم والعمل بالنسبة للفتيات قد أصبحت أكثر شيوعا، فهي للأسف لا تهدف في غالب الأحيان لأكثر من تحسين فرصها في الزواج ورعاية الزوج وتربية الأبناء. فهي تعد منذ طفولتها لهذا الدور وتشجع على إبراز أنوثتها وتعيش في الوقت نفسه حالة قمع واستلاب نفسي وجسدي في ظل أسرة الأب ومن ثم أسرة الزوج.
يحصل ذلك ضمن قوانين صارمة في ظل التحريم الديني والقانوني وجو من القهر الاجتماعي. ويكون للرجل أبا أو أخا أو زوجا أو ابنا الحق بالتحكم بحريتها وحركتها وكيانها حفاظا على شرف العائلة كونه يُنظر لها كأداة للجنس والمتعة والإنجاب. ذلك رغم أن المعاملة المهينة للفتيات وتفضيل الذكور عليهن وتدجينهن على القبول بهذا الواقع يترك أثارا جد سيئة على تكوينهن النفسي وبالتالي على مستقبلهن وعلى ذريتهن من بعد. وهذه الظاهرة أكثر بروزا عند الشرائح الاجتماعية الأكثر فقرا والأقل مكانة اجتماعية، ما يجعلها أقل حماية قانونية واجتماعية وأكثر تأثرا بالثقافة السائدة.
أما الإيديولوجية الرسمية للدولة فلا يمكن إلا أن تكون على صورة منظومة القيم السائدة في المجتمع الذي تنبثق عنه. ما يسهل تلمسه من خلال تعامل أجهزتها ومؤسساتها بما يخص موضوع النساء والفئات المستضعفة وما تعكسه وسائل إعلامها التي تهدف لخدمة أغراضها. ويكون هذا بتزييف الوعي وتعميق فكرة دونية المرأة بالتركيز على دورها كأم متفانية وزوجة خاضعة أو كأنثى وكموضوع تشيؤ وجنس وإثارة في خدمة الملكوت الرجالي (3).
لقد غدت العدوانية والفحولة والتسلطية والقوة البدنية واستعباد الآخرين وحب الامتلاك والتبجح بالمقتنيات والمظاهر وممارسة الرياء والزيف والتناقض بين ما هو معلن وما هو مبيت سمات بارزة تغرس جذورها في الثقافة السائدة والتراث الشعبي والدين والقوانين. ذلك، ضمن علاقة جدلية بين العنف السياسي والمجتمعي والأسري وإعادة إنتاجه وتوزيعه تبع موازين القوى. مما عمق عند الفئات المستضعفة حالة الشعور بالدونية والاغتراب على جميع الأصعدة وخلق أجواء محمومة من الكبت والعنف والعنف المضاد.